الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام، وكان المعنى لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم السلام كان في ذلك ردّ على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه، وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو هو أنه نظر يومًا وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه، وقال لهم: إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه، وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك، وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ.وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير، وبكل من ذلك نطقت الآثار، وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح، ومع هذا كله من ادعى وقوع الاطلاع فعليه البيان وأنى به، وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وأما إذا قيل فيه غير ذلك انجر البحث إلى وراء ما سمعت، واتسعت الدائرة.ومن ذلك قولهم: إن الألواح أربعة، لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول، ولوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ، ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه، والثاني بمثابة قلبه، ولوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضًا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله:
هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك، وطرق اطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع، وورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة العلم والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم.وقالوا في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] ما بنوه على القول بوحدة الوجود والكلام فيها شائع وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة ولهم في اليقين وعين اليقين وحق اليقين عبارات شتى، منها اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان، وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الاسرار بمحافظة الأفكار، وقيل: طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض إذا استقر، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علمًا وشهودًا وحالًا لا علمًا فقط فعلم كل عاقل الموت علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين، وقيل: علم اليقين ظاهر الشريعة، وعين اليقين الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها، {وَقِيلَ وَقِيلَ} ونحن نسأل الله تعالى الهداية إلى أقوم سبيل، وأن يشرح صدورنا بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل.وهو سبحانه حسبنا في الدارين ونعم الوكيل. اهـ. .قال عبد الكريم الخطيب: قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ}.وهذا المحتضر، قد نفذ فيه قضاء اللّه، وأصبح في عالم الموتى..ولكنه لا يترك كهذا ليد الفناء ـ كما يظنون ـ، بل إنه سينقل إلى العالم الآخر، وتلبسه الحياة هناك مرة أخرى، ويأخذ منزله في هذا العالم، حسب عمله في الدنيا..فإن كان من المقربين إلى اللّه، ومن أولياء اللّه في الدنيا، فاللّه سبحانه هو وليّه في الآخرة، يلقاه لقاء الأولياء الأحباب بالروح والريحان وجنة النعيم..والروح: ما تستروحه النفوس، وتطيب به، وتسعد فيه.. وقرىء:{فروح} أي حياة جديدة تلبسه..قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ} وأصحاب اليمين، هم ممن أرادهم اللّه {سبحانه} ليكونوا من أصحاب الجنة، فيسّر لهم العمل بعمل أهل الجنة..وقوله تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ}، أي أنهم في سلام وأنهم يتهادون التحية والسلام فيما بينهم، ويبعثون بتحاياهم إلى إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ممن لا يزالون في هذه الدنيا..فالضمير في {لك} يراد به كل مؤمن باللّه، طامع في أن يكون من أصحاب اليمين!.. وهى تحية من أهل اليمين في العالم الآخر، ينقلها اللّه سبحانه وتعالى، إلى المؤمنين في الدنيا، حتى يلقوا إخوانهم في العالم الآخر، ويردوا هذه التحية الطيبة بأحسن منها أو مثلها.قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي وأما إن كان هذا الميت من هؤلاء المدهنين المكذبين، فمنزله الحميم، الذي تختنق النفوس بسمومه، وداره الجحيم التي يشوى على جمرها..وهكذا الناس بعد الموت، حيث ينقلون إلى الدار الآخرة، فيكونون أزواجا ثلاثة..السابقون، وهم المقربون..وأصحاب اليمين..وأصحاب الشمال..ولكلّ منزله الذي ينزله في هذه الدار، وجزاؤه الذي يجزاه فيها..قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.بهذا الحكم تختم السورة الكريمة، وبهذا التنزيه للّه سبحانه، والحمد للّه، يعقّب على هذا الحكم، ويلفت إلى ما ينبغى أن يستقبل به من النبي، ومن المؤمنين..وحق اليقين، أي الحق المطلق، الذي لا يعلق به شيء من دخان الباطل وسحبه..فهو الحق الذي ينبغى أن ينزل من القلوب والعقول منزلة اليقين، فتطمئن به القلوب، وتسكن إليه العقول..واليقين المشار إليه، هو اليقين الوارد من تلك الآيات، التي تحدث عن قدرة اللّه، وعن البعث، والحساب، والجزاء.. فهذا الحديث هو حديث حق مستيقن، لا شك فيه..وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أن هذا الحق، هو الحق الذي يقيم اليقين في النفوس، لأنه حق خالص من كل شائبة.. أما غيره فقد يكون حقّا، ولكنه قد يتلبس به ما يحجبه عن الأبصار، فيثير حوله سحبا من ضباب الشك والارتياب.. أما هذا الحق، فهو حق صراح، ونور مبين..لا يحجبه شىء.وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ـ هو كما قلنا ـ تعقيب على هذه الحكم، واستقبال لهذا الحق المشرق، الذي يملأ القلوب طمأنينة وأمنا ـ استقبال له، بتنزيه اللّه سبحانه والتسبيح بحمده، شكرا له على هذا الهدى الذي يهدى به من يشاء من عباده..والمراد بالتسبيح باسم اللّه، تسبيح لذات اللّه، وحمد لذات اللّه، ولهذا إذا سبّح المؤمن ربه قال: سبحان ربى العظيم، سبحان ربى الأعلى.. ولم يقل سبحان اسم ربى العظيم، أو سبحان اسم ربى الأعلى..يقول ابن تيمية في معنى: {فسبح باسم ربك العظيم} أي سبح ناطقا باسم ربك، متكلما به.ويعلق ابن القيم على هذا الذي يقول به شيخه ابن تيمية: هذه فائدة تساوى {رحلة}!!.وهذا هو قدر العلم، وتقدير العلماء له.. فرضى اللّه عن الأستاذ وعن التلميذ.إنه من أجل هذه الكلمة التي تفيد علما، وتشع هدى، ليس بالقليل عليها أن تشد لها الرحال، وتقطع في سبيل الوصول إليها الفيافي والقفار! ولكم احتمل سلفنا الصالح، رضوان اللّه عليهم، من أعباء الجهاد في طلب العلم، فكان الواحد منهم يقطع ما بين الشرق والغرب ـ على قلة الزاد، وخشونة المركب، حيوانا، أو قدما ـ في سبيل أن يلقى رجلا من أهل العلم بلغه عنه أنه يحفظ حديثا لرسول اللّه، أو قراءة لآية من آيات اللّه..إنهم قدروا العلم قدره، وبذلوا له المهر الذي يستحقه..وإنه على قدر المشقة كان الثواب والجزاء من اللّه سبحانه، فوقع هذا العلم من قلوبهم موقع الغيث من الأرض الطيبة، فأزهر، وأثمر، وأخرج من كل زوج بهيج.. اهـ..قال ابن عاشور: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)}.لما اقتضى الكلام بحذافره أن الإِنسان صاحب الروح صائر إلى الجزاء فرع عليه إجمال أحوال الجزاء في مراتب الناس إجمالًا لما سبق تفصيله بقوله: {وكنتم أزواجًا ثلاثة إلى قوله لا بارد ولا كريم} [الواقعة: 7 44] ليكون هذا فذلكة للسورة وردًّا لعجزها على صدرها.فضمير {إن كان} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {إليه} من قوله: {ونحن أقرب إليه منكم} [الواقعة: 85].والمقربون هم السابقون الذين تقدم ذكرهم في قوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 85] وأصحاب اليمين قد تقدم والمكذبون الضالون: هم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم.وقد ذكر لكل صنف من هؤلاء جزاء لم يُذكر له فيما تقدم ليضم إلى ما أعدّ له فيما تقدم على طريقة القرآن في توزيع القصة.والرَّوْح: بفتح الراء في قراءة الجمهور، وهو الراحة، أي فرَوْح له، أي هو في راحة ونعيم، وتقدم في قوله: {ولا تيأسوا من روح الله} في سورة يوسف (87).وقرأه رويس عن يعقوب بضم الراء، ورويت هذه القراءة عن عائشة عن النبي عند أبي داود والترمذي والنسائي، أي أن رسول الله روي عنه الوجهان، فالمشهور روي متواترًا، والآخر روي متواترًا وبالآحاد، وكلاهما مراد.ومعنى الآية على قراءة ضم الراء: أن روحه معها الريحان وهو الطيب وجنة النعيم.وقد ورد في حديث آخر: «أن رُوح المؤمن تخرج طيبة».وقيل: أطلق الرُّوح بضم الراء على الرحمة لأن من كان في رحمة الله فهو الحيّ حقًا، فهو ذو روح، أما من كان في العذاب فحياته أقل من الموت، قال تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى} [الأعلى: 13]، أي لأنه يتمنى الموت فلا يجده.والريحان: شجر لورقة وقضبانه رائحة ذكية شديد الخضرة كانت الأمم تزين به مجالس الشراب.قال الحريري وطورًا يستبزل الدنان، ومرة يستنثق الريحان. وكانت ملوك العرب تتخذهُ، قال النابغة:وتقدم عند قوله تعالى: {والحب ذو العصف والريحان} في سورة الرحمن (12)، فتخصيصه بالذكر قبل ذكر الجنة التي تحتوي عليه إيماء إلى كرامتهم عند الله، مثل قوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23، 24].وجملة {فروح وريحان} جواب (أما) التي هي بمعنى: مهما يكن شيء.وفُصل بين (ما) المتضمنة معنى اسم شرط وبين فعل شرط وبين الجواب بشرط آخر هو {إن كان من المقربين} لأن الاستعمال جرى على لزوم الفصل بين (أمّا) وجوابها بفاصل كراهية اتصال فاء الجواب بأداة الشرط لما التزموا حذف فعل الشرط فأقاموا مقامه فاصلًا كيفَ كان.
|